سورة الرحمن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)}
وفيه لطائف: الأولى: التعريف في عذاب جهنم قال: {هذه جَهَنَّمُ} [الرحمن: 43] والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد، وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ثم بعدها مراتب وزيادات الثانية: قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي، والخشية خوف سببه عظمة المخشى، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم، بل لعظمة جانب الله، وكذلك قوله: {مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته، وكذلك قوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37] وإنما قلنا: إن الخشية تدل على ما ذكرنا لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في خ ش ي، وقال تعالى في الخوف: {وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا} [طه: 21] لما كان الخوف يضعف في موسى، وقال: {لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ} [العنكبوت: 33] وقال: {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] وقال إني: {خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى} [مريم: 5] ويدل عليه تقاليب خ وف فإن قولك خفي قريب منه، والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضاً، وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي، والعبد من الله خائف وخاش، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف، وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف، فلهذا قال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} جعله منحصراً فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه، وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته، بل تزداد خشيتهم، وإما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه، فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك، فلذلك قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي؟ الثالثة: لما ذكر الخوف ذكر المقام، وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله} وقال: {لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله} وقال عليه السلام: «خشية الله رأس كل حكمة» لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه. وفي مقام ربه قولان:
أحدهما: مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه، وهو مقام عبادته كما يقال: هذا معبد الله وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد الله العبد فيه والثاني: مقام ربه الموضع الذي فيه الله قائم على عباده من قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أي حافظ ومطلع أخذاً من القائم على الشيء حقيقة الحافظ له فلا يغيب عنه، وقيل: مقام مقحم يقال: فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلاناً وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي، لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي الله فالخاشي لو قيل له: افعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم والخائف ربما كان يقدم على ملاذ نفسه لو رفع عنه القلم وكيف لا، ويقال: خاصة الله من خشية الله في شغل شاغل عن الأكل والشرب واقفون بين يدي الله سابحون في مطالعة جماله غائصون في بحار جلاله، وعلى الوجه الثاني قرب الخائف من الخاشي وبينهما فرق الرابعة: في قوله: {جَنَّتَانِ} وهذه اللطيفة نبينها بعدما نذكر ما قيل في التثنية، قال بعضهم: المراد جنة واحدة كما قيل في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] وتمسك بقول القائل:
ومهمهين سرت مرتين *** قطعته بالسهم لا السهمين
فقال: أراد مهمهاً واحداً بدليل توحيد الضمير في قطعته وهو باطل، لأن قوله بالسهم يدل على أن المراد مهمهان، وذلك لأنه لو كان مهمهاً واحداً لما كانوا في قطعته يقصدون جدلاً، بل يقصدون التعجب وهو إرادته قطع مهمهين بأهبة واحدة وسهم واحد وهو من العزم القوي، وأما الضمير فهو عائد إلى مفهوم تقديره قطعت كليهما وهو لفظ مقصور معناه التثنية ولفظه للواحد، يقال: كلاهما معلوم ومجهول، قال تعالى: {كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] فوحد اللفظ ولا حاجة هاهنا إلى التعسف، ولا مانع من أن يعطي الله جنتين وجناناً عديدة، وكيف وقد قال بعد: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] وقال: فيهما.
والثاني وهو الصحيح أنهما جنتان وفيه وجوه:
أحدها: أنهما جنة للجن وجنة للإنس لأن المراد هذان النوعان وثانيهما: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي لأن التكليف بهذين النوعين.
وثالثها: جنة هي جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء، ويحتمل أن يقال: جنتان جنة جسمية والأخرى روحية فالجسمية في نعيم والروحية في روح فكان كما قال تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] وذلك لأن الخائف من المقربين والمقرب في روح وريحان وجنة نعيم وأما اللطيفة: فنقول: لما قال تعالى في حق المجرم إنه يطوف بين نار وبين حميم آن، وهما نوعان ذكر لغيره وهو الخائف جنتين في مقابلة ما ذكر في حق المجرم، لكنه ذكر هناك أنهم يطوفون فيفارقون عذاباً ويقعون في الآخر، ولم يقل: هاهنا يطوفون بين الجنتين بل جعلهم الله تعالى ملوكاً وهم فيها يطاف عليهم ولا يطاف بهم احتراماً لهم وإكراماً في حقهم، وقد ذكرنا في قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] وقوله: {إِنَّ المتقين فِي جنات} [الذاريات: 15] أنه تعالى ذكر الجنة والجنات، فهي لاتصال أشجارها ومساكنها وعدم وقوع الفاصل بينهما كمهامه وقفار صارت كجنة واحدة، ولسعتها وتنوع أشجارها وكثرة مساكنها كأنها جنات، ولاشتمالها على ما تلتذ به الروح والجسم كأنها جنتان، فالكل عائد إلى صفة مدح.


{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)}
هي جمع فنن أي ذواتا أغصان أو جمع فن أي فيهما فنون من الأشجار وأنواع من الثمار.
فإن قيل: أي الوجهين أقوى؟ نقول: الأول لوجهين:
أحدهما: أن الأفنان في جمع فنن هو المشهور والفنون في جمع الفن كذلك، ولا يظن أن الأفنان والفنون جمع فن بل كل واحد منهما جمع معرف بحرف التعريف والأفعال في فعل كثير والفعول في فعل أكثر ثانيهما: قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] مستقل بما ذكر من الفائدة، ولأن ذلك فيما يكون ثابتاً لا تفاوت فيه ذهناً ووجوداً أكثر، فإن قيل: كيف تمدح بالأفنان والجنات في الدنيا ذوات أفنان كذلك؟ نقول: فيه وجهان:
أحدهما: أن الجنات في الأصل ذوات أشجار، والأشجار ذوات أغصان، والأغصان ذوات أزهار وأثمار، وهي لتنزه الناظر إلا أن جنة الدنيا لضرورة الحاجة وجنة الآخرة ليست كالدنيا فلا يكون فيها إلا ما فيه اللذة وأما الحاجة فلا، وأصول الأشجار وسوقها أمور محتاج إليها مانعة للإنسان عن التردد في البستان كيفما شاء، فالجنة فيها أفنان عليها أوراق عجيبة، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ، ويدل عليه أنه تعالى لم يصف الجنة إلا بما فيه اللذة بقوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي الجنة هي ذات فنن غير كائن على أصل وعرق بل هي واقفة في الجو وأهلها من تحتها والثاني: من الوجهين هو أن التنكير للأفنان للتكثير أو للتعجب.


{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)}
أي في كل واحدة منهما عين جارية، كما قال تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وفي كل واحدة منهما من الفواكه نوعان، وفيها مسائل بعضها يذكر عند تفسير قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 66- 68] وبعضها يذكر هاهنا.
المسألة الأولى: هي أن قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] و{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و{فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} كلها أوصاف للجنتين المذكورتين فهو كالكلام الواحد تقديره: جنتان ذواتا أفنان، ثابت فيهما عينان، كائن فيهما من كل فاكهة زوجان، فإن قيل: ما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى: {فَبِأَىّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ثلاث مرات مع أنه في ذكر العذاب ما فصل بين كلامين بها حيث قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] مع أن إرسال نحاس غير إرسال شواظ، وقال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} [الرحمن: 44] مع أن الحميم غير الجحيم، وكذا قال تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} [الرحمن: 43] وهو كلام تام، وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} [الرحمن: 44] كلام آخر ولم يفصل بينهما بالآية المذكورة؟ نقول: فيه تغليب جانب الرحمة، فإن آيات العذاب سردها سرداً وذكرها جملة ليقصر ذكرها، والثواب ذكره شيئاً فشيئاً، لأن ذكره يطيب للسامع فقال بالفصل وتكرار عود الضمير إلى الجنس بقوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ}، {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة} لأن إعادة ذكر المحبوب محبوب، والتطويل بذكر اللذات مستحسن.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة عين واحدة كما مر، وقوله: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} معناه كل واحدة منهما زوج، أو معناه في كل واحدة منهما من الفواكه زوجان، ويحتمل أن يكون المراد مثل ذلك أي في كل واحدة من الجنتين زوج من كل فاكهة ففيهما جميعاً زوجان من كل فاكهة، وهذا إذا جعلنا الكنايتين فيهما للزوجين، أو نقول: من كل فاكهة لبيان حال الزوجين، ومثاله إذا دخلت من على ما لا يمكن أن يكون كائناً في شيء كقولك: في الدار من الشرق رجل، أي فيها رجل من الشرق، ويحتمل أن يكون المراد في كل واحدة منها زوجان، وعلى هذا يكون كالصفة بما يدل عليه من كل فاكهة كأنه قال: فيهما من كل فاكهة، أي كائن فيهما شيء من كل فاكهة، وذلك الكائن زوجان، وهذا بين فيما تكون من داخله على ما لا يمكن أن يكون هناك كائن في الشيء غيره، كقولك: في الدار من كل ساكن، فإذا قلنا: فيهما من كل فاكهة زوجان الثالث: عند ذكر الأفنان لو قال: فيهما من كل فاكهة زوجان كان متناسباً لأن الأغصان عليها الفواكه، فما الفائدة في ذكر العينين بين الأمرين المتصل أحدهما بالآخر؟ نقول: جرى ذكر الجنة على عادة المتنعمين، فإنهم إذا دخلوا البستان لا يبادرون إلى أكل الثمار بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة مؤلمة فكيف في الجنة فذكر ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآي بأحسن المعاني في أبين المباني.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13